فصل: فيمَنْ وَجَدَ آَبِقَا أَيَأْخُذُهُ وَفي الْآبِقِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ وَالْقَضَاءُ فيهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدونة (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْآبِقِ:

.(فيمن أَخَذَ عَبْدًا آبِقًا فَأَبَقَ مِنْه، أَيَكُونُ عَلَيْه شَيْءٌ أَمْ لَا):

قُلْت: أَرَأَيْت إنْ أَخَذْت عَبْدًا آبِقًا فَأَبَقَ مِنِّي، أَيَكُونُ عَلَيَّ شَيْءٌ أَمْ لَا في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: لَا شَيْءَ عَلَيْك.
قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ أَرْسَلَهُ بَعْدَمَا أَخَذَهُ ضَمِنَهُ، كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ.
قُلْت: أَرَأَيْت إنْ اعْتَرَفْت عَبْدًا آبِقًا عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَأَتَيْت بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، أَأَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِي وَآخُذُ الْعَبْدَ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قُلْت: هَلْ كَانَ مَالِكٌ يَرَى أَنْ يُسْتَحْلَفَ طَالِبُ الْحَقِّ مَعَ شَاهِدَيْنِ؟
قَالَ: لَا، إذَا أَقَامَ شَاهِدَيْنِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ.
قُلْت: أَرَأَيْت إذَا ادَّعَى هَذَا الْآبِقَ رَجُلٌ فَقَالَ: هُوَ عَبْدِي وَقَالَ الْعَبْدُ: صَدَقَ أَنَا عَبْدُهُ.
وَلَا بَيِّنَةَ لِلسَّيِّدِ.
أَيُعْطَى السَّيِّدُ بِقَوْلِهِ وَبِإِقْرَارِ الْعَبْدِ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قُلْت: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؟
قَالَ: هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ، إنَّ مَالِكًا قَالَ في اللُّصُوصِ إذَا أُخِذُوا وَمَعَهُمْ الْأَمْتِعَةُ، فَأَتَى قَوْمٌ فيدَّعُونَ ذَلِكَ الْمَتَاعَ، وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِمْ وَلَيْسَتْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ.
قَالَ مَالِكٌ: يَتَلَوَّمُ لَهُمْ السُّلْطَانُ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ غَيْرُهُمْ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ.
قُلْت: أَرَأَيْت الْآبِقَ إذَا حَبَسَهُ الْإِمَامُ سَنَةً ثُمَّ بَاعَهُ، فَجَاءَ سَيِّدُهُ وَالْعَبْدُ قَائِمٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، أَيَكُونُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ وَيَأْخُذَ الْعَبْدَ؟
قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ إنَّمَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ.
ثَمَنَهُ.
قُلْت: لِمَ؟
قَالَ: لِأَنَّ السُّلْطَانَ بَاعَهُ عَلَيْهِ وَبَيْعُ السُّلْطَانِ جَائِزٌ.

.في بَيْعِ السُّلْطَانِ الْأُبَّاقَ:

قُلْت: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ السُّلْطَانَ بَاعَ هَذَا الْآبِقَ بَعْدَمَا حَبَسَهُ سَنَةً، ثُمَّ أَتَى سَيِّدُهُ فَاعْتَرَفَهُ فَقَالَ: قَدْ كُنْت أَعْتَقْته بَعْدَمَا أَبَقَ، أَوْ قَالَ قَدْ كُنْت دَبَّرْته بَعْدَمَا أَبَقَ؟
قَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى نَقْضِ الْبَيْعِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ لَهُ، لِأَنَّ بَيْعَ السُّلْطَانِ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ السَّيِّدِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ بَاعَ الْعَبْدَ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَعْتَقَهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى نَقْضِ الْبَيْعِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَهَذَا رَأْيِي.
قُلْت: أَرَأَيْت إنْ قَالَ: قَدْ كُنْت أَعْتَقْته قَبْلَ أَنْ يَأْبَقَ مِنِّي أَوْ دَبَّرْته قَبْلَ أَنْ يَأْبَقَ مِنِّي؟
قَالَ: أَمَّا التَّدْبِيرُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فيهِ، وَأَمَّا الْعِتْقُ فَلَا أَرَى أَيْضًا أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ هُوَ نَفْسُهُ ثُمَّ قَالَ: قَدْ كُنْت أَعْتَقْته لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ.
قُلْت: أَرَأَيْت إذَا أَتَى سَيِّدُهَا وَهِيَ أَمَةٌ لَهُ وَقَدْ كَانَ بَاعَهَا السُّلْطَانُ بَعْدَمَا حَبَسَهَا سَنَةً، فَقَالَ سَيِّدُهَا: قَدْ كَانَتْ وَلَدَتْ مِنِّي وَوَلَدُهَا قَائِمٌ؟
قَالَ: أَرَى أَنْ تُرَدَّ إلَى سَيِّدِهَا إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَى مِثْلِهَا، لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ في رَجُلٍ بَاعَ جَارِيَةً لَهُ وَوَلَدَهَا.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: هَذَا الْوَلَدُ الَّذِي بِعْت مَعَهَا هُوَ مِنِّي.
قَالَ مَالِكٌ: إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَى مِثْلِهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ.
وَقَالَ في الْعِتْقِ: إنْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهَا لَمْ يُصَدَّقْ وَلَمْ تُرَدَّ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ.
قُلْت: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ فَقَالَ بَعْدَمَا بَاعَهَا: قَدْ كَانَتْ وَلَدَتْ مِنِّي؟
قَالَ: أَرَى أَنْ تُرَدَّ إذَا لَمْ يُتَّهَمُ في مِثْلِهَا، كَذَلِكَ بَلَغَنِي عَنْ مَالِكٍ.

.فيمَنْ اغْتَصَبَ عَبْدًا فَمَاتَ:

قُلْت: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا اغْتَصَبَ عَبْدًا فَمَاتَ عِنْدَ الْغَاصِبِ مَوْتًا ظَاهِرًا، أَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: هُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ.
قُلْت: أَرَأَيْت الْعَبْدَ الْآبِقَ، أَيَجُوزُ تَدْبِيرُ سَيِّدِهِ فيهِ وَعِتْقُهُ؟
قَالَ: نَعَمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ بِإِبَاقِ الْعَبْدِ.
قُلْت: أَرَأَيْت الْعَبْدَ الْآبِقَ، أَيَبِيعُهُ سَيِّدُهُ وَهُوَ آبِقٌ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: لَا.
قُلْت: أَرَأَيْت مَنْ وَهَبَ عَبْدًا لَهُ آبِقًا، أَتَجُوزُ فيهِ الْهِبَةُ أَمْ لَا؟
قَالَ: إذَا كَانَتْ الْهِبَةُ لِغَيْرِ الثَّوَابِ جَازَتْ في قَوْلِ مَالِكٍ.
قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ لِلثَّوَابِ لَمْ تَجُزْ في قَوْلِ مَالِكٍ، لِأَنَّ الْهِبَةَ لِلثَّوَابِ بَيْعٌ مِنْ الْبُيُوعِ وَبَيْعُ الْآبِقِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَرَرٌ، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ لِلثَّوَابِ.

.في إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْآبِقِ:

قُلْت: أَرَأَيْت الْآبِقَ إذَا زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ قَذَفَ، أَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: إنَّ الْآبِقَ إذَا سَرَقَ قُطِعَ، فَالْحُدُودُ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ السَّرِقَةِ.
قُلْت: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَتَى إلَى قَاضٍ بِكِتَابٍ مِنْ قَاضٍ: أَنَّهُ قَدْ شَهِدَ عِنْدِي قَوْمٌ أَنَّ فُلَانًا صَاحِبُ كِتَابِيِّ إلَيْك قَدْ هَرَبَ مِنْهُ عَبْدٌ، صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا، فَوَصَفَهُ وَجَلَاهُ، وَعِنْدَ الْقَاضِي عَبْدٌ آبِقٌ مَحْبُوسٌ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي كَتَبَ بِهَا الْقَاضِي إلَيْهِ، أَتَرَى أَنْ يُقْبَلَ كِتَابُ الْقَاضِي وَشَهَادَةُ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا فيهِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَتَبَ بِهَا الْقَاضِي إلَيْهِ يَدْفَعُ الْعَبْدَ إلَيْهِ أَمْ لَا؟
قَالَ: أَرَى أَنْ يُقْبَلَ الْكِتَابُ وَالْبَيِّنَةُ الَّتِي فيهِ وَيَدْفَعُ الْعَبْدَ إلَيْهِ.
قُلْت: وَتَرَى لِلْقَاضِي الْأَوَّلِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الصِّفَةِ وَيَكْتُبُ بِهَا إلَى قَاضٍ آخَرَ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قُلْت: أَتَحْفَظُ شَيْئًا مِنْ هَذَا عَنْ مَالِكٍ؟
قَالَ: لَا، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ لَنَا في الْأَمْتِعَاتِ الَّتِي تُسْرَقُ بِمَكَّةَ: إنْ أَتَى رَجُلٌ فَاعْتَرَفَ الْمَتَاعَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَوَصَفَ الْمَتَاعَ اسْتَأْنَى الْإِمَامُ بِهِ.
فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَطْلُبُهُ وَإِلَّا دَفَعَهُ إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى صِفَتِهِ بَلْ هُوَ أَحْرَى أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ.
قُلْت: فَإِنْ ادَّعَى الْعَبْدُ وَصْفَهُ وَلَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ؟
قَالَ: أَرَى أَنَّهُ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ في الْمَتَاعِ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ بِهِ الْإِمَامُ وَيَتَلَوَّمُ لَهُ.
فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يَطْلُبُهُ وَإِلَّا دَفَعَهُ إلَيْهِ وَضَمَّنَهُ إيَّاهُ.
قُلْت: وَلَا يُلْتَفَتُ هَهُنَا إلَى الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا أَنَّ هَذَا سَيِّدُهُ إلَّا أَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ بِبَلَدٍ آخَرَ؟
قَالَ: يَكْتُبُ السُّلْطَانُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَيَنْظُرُ في قَوْلِ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ وَإِلَّا ضَمَّنَهُ هَذَا وَأَسْلَمَهُ إلَيْهِ، مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ في الْأَمْتِعَةِ.

.في اعْتِرَافِ الدَّوَابِّ وَالرَّقِيقِ:

قُلْت: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَفَ دَابَّةً لَهُ في يَدِ رَجُلٍ، فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَابَّتُهُ وَحَكَمَ لَهُ بِهَا السُّلْطَانُ، فَادَّعَى الَّذِي في يَدَيْهِ الدَّابَّةُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَأَرَادَ أَنْ لَا يَذْهَبَ حَقُّهُ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ يُؤْمَرُ هَذَا الَّذِي كَانَتْ الدَّابَّةُ في يَدَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ قِيمَةَ الدَّابَّةِ، فَتُوضَعُ الْقِيمَةُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، وَيُمَكِّنُهُ الْقَاضِي مِنْ الدَّابَّةِ وَيَطْبَعُ لَهُ في عُنُقِ الدَّابَّةِ، وَيَكْتُبُ لَهُ إلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ كِتَابًا أَنِّي قَدْ حَكَمْت بِهَذِهِ الدَّابَّةِ.
لِفُلَانٍ، فَاسْتَخْرِجْ لِفُلَانٍ مَالَهُ مِنْ بَائِعِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ لِلْبَائِعِ حُجَّةٌ.
قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ تَلِفَتْ الدَّابَّةُ في ذَهَابِهِ أَوْ مَجِيئِهِ أَوْ أُعْوِرَتْ أَوْ انْكَسَرَتْ فَهِيَ مِنْ الذَّاهِبِ بِهَا، وَالْقِيمَةُ الَّتِي وُضِعَتْ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ لِلَّذِي اعْتَرَفَهَا.
قُلْت: إنْ أَنْقَصَهَا في ذَهَابِهِ أَوْ مَجِيئِهِ؟
قَالَ: كَذَلِكَ أَيْضًا في قَوْلِ مَالِكٍ، الْقِيمَةُ لِهَذَا الَّذِي اعْتَرَفَهَا إلَّا أَنْ يَرُدَّ الدَّابَّةَ بِحَالِهَا.
قُلْت: وَكَذَلِكَ الرَّقِيقُ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: نَعَمْ، كَذَلِكَ الرَّقِيقُ إلَّا أَنْ تَكُونَ جَارِيَةً.
فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَكَانَ الَّذِي يَذْهَبُ بِهَا أَمِينًا لَا يَخَافُ عَلَى مِثْلِهِ أُعْطِيهَا وَذَهَبَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَمِينًا يَذْهَبُ بِهَا وَتَكُونُ مَعَهُ وَإِلَّا لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ.
قُلْت: أَرَأَيْت إنْ اعْتَرَفَهَا رَجُلٌ وَهُوَ عَلَى ظَهْرِ سَفَرٍ يُرِيدُ إفْرِيقِيَّةَ، فَاعْتَرَفَ دَابَّتَهُ بِالْفُسْطَاطِ وَأَقَامَ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةَ فَاسْتَحَقَّهَا، فَقَالَ الَّذِي هِيَ في يَدَيْهِ: اشْتَرَيْتهَا مَنْ رَجُلٍ بِالشَّامِ أَتُمَكِّنُهُ مِنْ الدَّابَّةِ يَذْهَبُ بِهَا إلَى الشَّامِ وَيُعَوِّقُ هَذَا عَنْ سَفَرِهِ في قَوْلِ مَالِكٍ؟ هَذَا حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ، وَالْمُسَافِرُ في هَذَا وَغَيْرُ الْمُسَافِرِ سَوَاءٌ.
وَيُقَالُ لِهَذَا الْمُسَافِرِ: إنْ أَرَدْت أَنْ تَخْرُجَ فَاسْتَخْلِفْ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِك.
قُلْت: أَرَأَيْت إنْ قَالَ هَذَا الْمُسَافِرُ: إنِّي قَدْ اسْتَحْقَقْت دَابَّتِي، وَقَوْلُ هَذَا الَّذِي وَجَدْت دَابَّتِي في يَدَيْهِ إنَّهُ اشْتَرَاهَا بِالشَّامِ بَاطِلٌ، لَمْ يَشْتَرِهَا بِالشَّامِ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُعَوِّقَنِي عَنْ سَفَرِي.
أَيُقْبَلُ قَوْلُ الَّذِي اُعْتُرِفَتْ الدَّابَّةُ في يَدَيْهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا أَمْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؟
قَالَ: سَأَلْنَا مَالِكًا عَنْهَا.
فَقَالَ: إذَا قَالَ صَاحِبُهَا اشْتَرَيْتهَا أُمْكِنَ مِمَّا وَصَفْت لَك وَلَمْ يَقُلْ لَنَا مَالِكٌ إنَّهُ يُقَالُ لَهُ أَقِمْ الْبَيِّنَةَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لَبَيَّنُوا ذَلِكَ.
قُلْت: أَرَأَيْت قَوْلَ مَالِكٍ يُحْبَسُ الْآبِقُ سَنَةً ثُمَّ يُبَاعُ، مِنْ أَيْنَ أَخَذَ السَّنَةَ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أَنَّ الْآبِقَ يُحْبَسُ سَنَةً.
قُلْت: أَرَأَيْت الْقَاضِي إذَا جَاءَهُ الْبَغْلُ مَطْبُوعًا في عُنُقِهِ، وَجَاءَ بِكِتَابِ الْقَاضِي، أَيَأْمُرُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي جَاءَ بِالْبَغْلِ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذَا الْبَغْلَ هُوَ الَّذِي حُكِمَ بِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي طَبَعَ الْقَاضِي في عُنُقِهِ؟
قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ هَذَا، وَلَكِنْ إذَا كَانَ الْبَغْلُ مُوَافِقًا لِمَا في كِتَابِ الْقَاضِي مِنْ صِفَتِهِ، وَخَاتَمُ الْقَاضِي في عُنُقِهِ، وَأَتَى بِشَاهِدَيْنِ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي جَازَ ذَلِكَ، وَلَا أَرَى أَنْ يَسْأَلَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذَا الْبَغْلَ هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الْقَاضِي عَلَيْهِ.

.في شَهَادَةِ الْغُرَبَاءِ وَتَعْدِيلِهِمْ:

قُلْت: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ قَوْمًا غُرَبَاءَ شَهِدُوا في بَعْضِ الْبُلْدَانِ عَلَى حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ غَرِيبٍ مَعَهُمْ، أَوْ شَهِدُوا شَهَادَةً لِغَيْرِ غَرِيبٍ وَالشُّهُودُ لَا يُعْرَفُونَ في تِلْكَ الْبَلْدَةِ، أَيَقْبَلُ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمْ في قَوْلِ مَالِكٍ أَمْ مَاذَا يَصْنَعُ؟
قَالَ: لَا يَقْبَلُ، شَهَادَتَهُمْ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ في قَوْلِ مَالِكٍ إلَّا بِعَدَالَةٍ.
وَلَقَدْ سَمِعْت مَالِكًا، وَسُئِلَ قَوْمٌ شَهِدُوا في حَقٍّ فَلَمْ يُعْدِلْهُمْ قَوْمٌ تُعْرَفُ عَدَالَتُهُمْ، فَعَدَّلَ الْمُعَدِّلِينَ آخَرُونَ، أَتَرَى أَنْ يَجُوزَ في ذَلِكَ تَعْدِيلٌ عَلَى تَعْدِيلٍ؟
فَقَالَ: قَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ الشُّهُودُ غُرَبَاءَ رَأَيْت ذَلِكَ جَائِزًا، وَإِنْ كَانُوا غُرَبَاءَ - وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ - لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ حَتَّى يَأْتُوا بِمَنْ يُزَكِّيهِمْ.
فَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا غُرَبَاءَ لَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ إلَّا بَعْدَ الْعَدَالَةِ.
قُلْت: أَرَأَيْت قَوْلَك إنْ لَمْ يَعْرِفْ الْقَاضِي الْمُعَدِّلِينَ الْأَوَّلِينَ.
قَالَ: لَيْسَ الْقَاضِي يَعْرِفُ كُلَّ النَّاسِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ الْقَاضِي بِمَعْرِفَةِ النَّاسِ.
وَإِنَّمَا قُلْت لَك في قَوْلِ مَالِكٍ، إنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْقَاضِي عَدَالَةً عَلَى عَدَالَةٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ حَتَّى تَكُونَ الْعَدَالَةُ عَلَى الشُّهُودِ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْقَاضِي.

.فيمَنْ وَجَدَ آَبِقَا أَيَأْخُذُهُ وَفي الْآبِقِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ وَالْقَضَاءُ فيهِ:

قُلْت: أَرَأَيْت مَنْ وَجَدَ آبِقًا أَوْ آبِقَةً، أَيَأْخُذُهُ أَمْ يَتْرُكُهُ في قَوْلِ مَالِكٍ قَالَ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ الْآبِقِ يَجِدُهُ الرَّجُلُ، هَلْ تَرَى أَنْ يَأْخُذَهُ أَمْ يَتْرُكَهُ؟
قَالَ: إنْ كَانَ لِجَارٍ أَوْ لِأَخٍ أَوْ لِمَنْ يَعْرِفُ، رَأَيْت أَنْ يَأْخُذَهُ.
وَإِنْ كَانَ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَلَا يَقْرَبْهُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ رَأَيْت أَنْ يَأْخُذَهُ إذَا كَانَ لِأَخٍ أَوْ لِجَارٍ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَأْخُذْهُ أَيْضًا فَهُوَ في سَعَةٍ، وَلَكِنَّ مَالِكًا كَانَ يَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ.
قُلْت: أَرَأَيْت الْآبِقَ إذَا لَمْ أَعْرِفْ سَيِّدَهُ إلَّا أَنَّ سَيِّدَهُ جَاءَنِي فَاعْتَرَفَهُ عِنْدِي، أَتَرَى أَنْ أَرْفَعَهُ إلَيْهِ أَمْ أَرْفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ مَالِكٍ فيهِ شَيْئًا، وَأَرَى لَك أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ إذَا لَمْ تَخَفْ ظُلْمَهُ.
قُلْت أَرَأَيْت عَبْدًا آبِقًا آجَرَ نَفْسَهُ مِنْ رَجُلٍ في بَعْضِ الْأَعْمَالِ، فَعَطِبَ في ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَالرَّجُلُ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ آبِقٌ، فَأَتَى مَوْلَاهُ فَاسْتَحَقَّهُ، أَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ؟
قَالَ: نَعَمْ، لِأَنَّهُ بَلَغَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ في عَبْدٍ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلٌ في السُّوقِ يُبَلِّغُ لَهُ كِتَابًا إلَى بَعْضِ الْقُرَى، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ، فَعَطِبَ الْغُلَامُ في الطَّرِيقِ.
فَقَالَ مَالِكٌ: أَرَاهُ ضَامِنًا.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَك أَنَّهُ ضَامِنٌ، أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى سِلْعَةً في سُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَأَتْلَفَهَا هُوَ نَفْسُهُ ثُمَّ أَتَى رَبَّهَا، كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَتْلَفَهَا.
فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا عَطِبَ في عَمَلِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي اشْتَرَى في سُوقِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ.
قُلْت: أَرَأَيْت لَوْ أَنِّي أَخَذْت عَبْدًا آبِقًا فَاسْتَعْمَلْته أَوْ آجَرْته، أَيَكُونُ لِسَيِّدِهِ عَلَيَّ قِيمَةِ مَا اسْتَعْمَلْته، أَوْ الْإِجَارَةُ الَّتِي آجَرْته بِهَا في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: نَعَمْ، لِأَنَّ ضَمَانَهُ مِنْ سَيِّدِهِ.
قُلْت: وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الرَّجُلُ يَغْصِبُ الدَّابَّةَ فيرْكَبُهَا وَقَدْ قُلْت فيهَا إنَّ مَالِكًا قَالَ: لَيْسَ الْإِجَارَةُ عَلَى الْغَاصِبِ؟
قَالَ: لِأَنَّ ضَمَانَ هَذِهِ الدَّابَّةِ مِنْ الْغَاصِبِ يَوْمَ أَخَذَهَا، وَلَا تَلْزَمُ صَاحِبَهَا نَفَقَتُهَا.
وَالْآبِقُ ضَمَانُهُ مِنْ سَيِّدِهِ يَوْمَ أَخَذَهُ هَذَا الَّذِي وَجَدَهُ وَنَفَقَتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ، لِأَنَّ مَنْ وَجَدَ آبِقًا فَلَا يَضْمَنُهُ في قَوْلِ مَالِكٍ إذَا أَخَذَهُ.
قُلْت: وَلَا تَرَى هَذَا الَّذِي أَخَذَ الْآبِقَ حِينَ اسْتَعْمَلَهُ ضَامِنًا لَهُ بِمَا اسْتَعْمَلَهُ؟
قَالَ: نَعَمْ، إذَا اسْتَعْمَلَهُ عَمَلًا يَعْطَبُ في مِثْلِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ إنْ عَطِبَ فيهِ، وَإِنْ سَلِمَ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ ذَلِكَ الْعَمَلِ لِسَيِّدِهِ.
قُلْت: وَلِمَ جَعَلْتَهُ ضَامِنًا ثُمَّ جَعَلْت عَلَيْهِ الْكِرَاءَ؟
قَالَ: لِأَنَّ أَصْلَ مَا أَخَذَ عَلَيْهِ لَمْ يَأْخُذْهُ عَلَى الضَّمَانِ، وَلِأَنَّ مَالِكًا قَالَ في عَبْدِ رَجُلٍ أَتَاهُ رَجُلٌ فَاسْتَعْمَلَهُ عَمَلًا يَعْطَبُ في مِثْلِهِ فَعَطِبَ الْغُلَامُ: إنَّ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ ضَامِنٌ، فَإِنْ سَلِمَ الْغُلَامُ فَلِمَوْلَاهُ قِيمَةُ الْعَمَلِ إنْ كَانَ عَمَلًا لَهُ، بَالٌ، فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى مَسْأَلَتِك.
وَإِنَّمَا صَارَ هَهُنَا عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَمَلِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَاصِبٍ لِلْعَبْدِ إذَا سَلِمَ الْعَبْدُ مِنْ أَنْ يَعْطَبَ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ إنْ عَطِبَ، فَكَذَلِكَ مَسْأَلَتُك.
وَاَلَّذِي غَصَبَ الدَّابَّةَ هُوَ ضَامِنٌ لَهَا اسْتَعْمَلَهَا أَوْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا - أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَضْمَنُهَا إنْ مَاتَتْ، وَهَذَا الَّذِي وَجَدَ الْآبِقَ لَا يَضْمَنُهُ إنْ مَاتَ، فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا في قَوْلِ مَالِكٍ.

.في إبَاقِ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الرَّهْنِ:

قُلْت: أَرَأَيْت الْمُكَاتَبَ إذَا أَبَقَ، أَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لِكِتَابَتِهِ في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لِكِتَابَتِهِ - في قَوْلِ مَالِكٍ - إلَّا أَنْ يَغِيبَ عَنْ نَجْمٍ مِنْ نُجُومِهِ فيرْفَعُهُ سَيِّدُهُ إلَى السُّلْطَانِ فيتَلَوَّمُ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِئْ عَجَّزَهُ، فَإِذَا عَجَّزَهُ السُّلْطَانُ كَانَ ذَلِكَ فَسْخًا لِكِتَابَتِهِ.

.مَا جَاءَ في عِتْقِ الْآبِقِ:

قُلْت: أَرَأَيْت عَبْدًا آبِقًا أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ عَنْ ظِهَارِهِ، أَيُجْزِئُهُ في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: مَا سَمِعْت أَنَّ أَحَدًا يَقُولُ إنَّ الْآبِقَ يُجْزِئُ في الظِّهَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَيِّدَهُ لَا يَعْلَمُ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ أَوْ صَحِيحٌ أَوْ أَعْمَى أَوْ مَقْطُوعُ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ، وَهَذَا لَا يُجْزِئُ في الظِّهَارِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَ مَوْضِعَهُ وَصِحَّتَهُ فيجُوزُ.
وَمَا سَمِعْت فيهِ مِنْ مَالِكٍ شَيْئًا أَقْوَمَ عَلَى حِفْظِهِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَنْ ظِهَارِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَالِ صِحَّةٍ عَلَى مَا يَجُوزُ في الظِّهَارِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَكَانَ كَفَّارَةً لَهُ.
قُلْت: أَرَأَيْت الْعَبْدَ الْآبِقَ إذَا أَتَى رَجُلٌ إلَى سَيِّدِهِ فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي فَبِعْهُ مِنَى.
قَالَ: الْآبِقُ، إذَا عُرِفَ عِنْدَ مَنْ هُوَ فَبَاعَهُ مِنْهُ وَقَدْ أُخْبِرَ السَّيِّدُ بِحَالِهِ الَّتِي حَالَ إلَيْهَا مِنْ صِفَتِهِ، أَوْ قِيلَ لَهُ إنَّهُ عَلَى صِفَةِ مَا تَعْرِفُ، جَازَ الْبَيْعُ فيمَا بَيْنَهُمَا وَلَا يَجُوزُ النَّقْدُ إنْ كَانَ بَعِيدًا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ لِرَجُلٍ غَائِبٍ عَنْهُ فَبَاعَهُ، فَهَذَا وَذَلِكَ سَوَاءٌ في قَوْلِ مَالِكٍ.
قُلْت: وَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ السَّيِّدِ أَنْ يَعْرِفَ إلَى مَا صَارَتْ إلَيْهِ حَالُ عَبْدِهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُشْتَرِي كَيْفَ صِفَةُ الْعَبْدِ في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: نَعَمْ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا غَابَ فَكَبُرَ أَوْ زَادَ في الصِّفَةِ أَوْ نَقَصَ أَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا فَفَصَحَ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْرِفَ سَيِّدُهُ مَا حَالَتْ إلَيْهِ حَالُهُ حَتَّى يَعْرِفَ مَا يَبِيعُ.
قُلْت: أَرَأَيْت لَوْ أَنِّي رَهَنْت عَبْدًا إلَيَّ عِنْدَ رَجُلٍ فَأَبَقَ مِنْهُ، أَيَبْطُلُ مِنْ حَقِّهِ شَيْءٌ أَمْ لَا في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: لَا يَبْطُلُ مِنْ حَقِّهِ شَيْءٌ، وَالْمُرْتَهَنُ مُصَدَّقٌ في إبَاقِهِ في قَوْلِ مَالِكٍ وَيَحْلِفُ.
قُلْت: أَرَأَيْت إنْ أَبَقَ هَذَا الْمَرْهُونُ فَأَخَذَهُ سَيِّدُهُ وَقَامَ الْغُرَمَاءُ عَلَى السَّيِّدِ، أَيَكُونُ هَذَا الْعَبْدُ في الرَّهْنِ في قَوْلِ مَالِكٍ أَمْ لَا؟ قَالَ هُوَ في الرَّهْنِ إنْ كَانَ قَدْ حَازَهُ الْمُرْتَهِنُ قَبْلَ الْإِبَاقِ، وَلَيْسَ إبَاقُهُ مِمَّا يُخْرِجُهُ مِنْ الرَّهْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَبَضَهُ سَيِّدُهُ وَيَعْلَمُ بِهِ الْمُرْتَهِنُ، فيتْرُكُهُ الْمُرْتَهِنُ في يَدِ السَّيِّدِ الرَّاهِنِ حَتَّى يُفْلِسَ فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ.

.في الْآبِقِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ يَشْتَرِيه رَجُلٌ مُسْلِمٌ:

قُلْت: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ آبِقًا أَبَقَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَدَخَلَ إلَى بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِلَادَهُمْ فَاشْتَرَاهُ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: يَأْخُذُهُ سَيِّدُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ.
قُلْت: وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ سَيِّدُهُ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قُلْت: وَعَبِيدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ في هَذَا وَعَبِيدُ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ؟
قَالَ: نَعَمْ في قَوْلِ مَالِكٍ لِأَنَّ مَالِكًا جَعَلَ الذِّمِّيَّ إذَا أُسِرَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ، إذَا ظَفَرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ رَدُّوهُ إلَى جِزْيَتِهِ.
قَالَ مَالِكٌ: - وَقَعَ في الْمَقَاسِمِ أَوْ لَمْ يَقَعْ - فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَى جِزْيَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضْ عَهْدَهُ وَلَمْ يُحَارِبْ، فَلَمَّا جَعَلَهُ مَالِكٌ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ في هَذَا كَانَ مَالُهُ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.
قُلْت: أَرَأَيْت إنْ كَانَ الَّذِي اشْتَرَى الْعَبْدَ في دَارِ الْحَرْبِ قَدْ أَعْتَقَهُ، أَيَجُوزُ عِتْقُهُ إيَّاهُ في قَوْلِ مَالِكٍ أَمْ لَا؟
قَالَ: نَعَمْ، عِتْقُهُ جَائِزٌ.
وَلَا أَرَى أَنْ يَرُدَّ عِتْقَهُ، فَإِنْ أَرَادَ سَيِّدُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا في سُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ سَيِّدًا غَيْرَ الَّذِي بَاعَهُ، فَأَعْتَقَهُ فَأَتَى سَيِّدُهُ فَاسْتَحَقَّهُ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ، لِأَنَّ هَذَا يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَاَلَّذِي اشْتَرَى مِنْ الْعَدُوِّ لَا يَأْخُذُهُ إلَّا بِثَمَنٍ وَكَانَ مُخَيَّرًا فيهِ، فَالْعِتْقُ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَكَانَ يَأْخُذُهُ سَيِّدُهُ أَمْ لَا.
قُلْت: وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هَذَا الَّذِي اشْتَرَى في دَارِ الْحَرْبِ، كَانَتْ أَمَةً فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى سَيِّدُهَا فَاسْتَحَقَّهَا؟
قَالَ: أَرَى أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِلَّذِي اشْتَرَاهَا في دَارِ الْحَرْبِ وَوَطِئَهَا، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهَا الْأَوَّلِ إلَيْهَا سَبِيلٌ، وَكَذَلِكَ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قُلْت: أَرَأَيْت مَا أَبَقَ إلَيْهِمْ وَمَا غَنِمُوا مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَسَوَاءٌ عِنْدَك؟
قَالَ: نَعَمْ هُوَ سَوَاءٌ، كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ.

.كِتَابُ حَرِيمِ الْآبَارِ:

.مَا جَاءَ في حَرِيمِ الْآبَارِ وَالْمِيَاهِ:

قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ: هَلْ لِلْبِئْرِ حَرِيمٌ عِنْدَ مَالِكٍ، بِئْرُ مَاشِيَةٍ أَوْ بِئْرُ زَرْعٍ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآبَارِ؟
قَالَ: لَا، لَيْسَ لِلْآبَارِ عِنْدَ مَالِكٍ حَرِيمٌ مَحْدُودٌ وَلَا لِلْعُيُونِ إلَّا مَا يَضُرُّ بِهَا.
قَالَ مَالِكٌ: وَمِنْ الْآبَارِ آبَارٌ تَكُونُ في أَرْضٍ رَخْوَةٍ وَأُخْرَى تَكُونُ في أَرْضٍ صُلْبَةٍ أَوْ في صَفًا، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ الضَّرَرِ بِالْبِئْرِ.
قُلْت: أَرَأَيْت إنْ كَانَتْ في أَرْضٍ صُلْبَةٍ أَوْ في صَفًا، فَأَتَى رَجُلٌ لِيَحْفِرَ قُرْبَهَا فَقَامَ أَهْلُهَا فَقَالُوا: هَذَا عَطَنٌ لِإِبِلِنَا إذَا وَرَدَتْ، وَمَرَابِضُ لِأَغْنَامِنَا وَأَبْقَارِنَا إذَا وَرَدَتْ.
أَيُمْنَعُ الْحَافِرُ مَنْ الْحَفْرِ في ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالْبِئْرِ؟
قَالَ: مَا سَمِعْت مِنْ مَالِكٍ فيهِ شَيْئًا إلَّا أَنِّي أَرَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ لِلْبِئْرِ وَلِأَهْلِ الْبِئْرِ إذَا كَانَ هَذَا يَضُرُّ بِمُنَاخِهِمْ، فَهُوَ كَالْإِضْرَارِ بِمَائِهِمْ.
قُلْت: فَإِنْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَبْنِيَ في ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، أَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ كَمَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْحَفْرِ فيهِ.
قَالَ: نَعَمْ، وَلَمْ أَسْمَعْ هَذَا مِنْ مَالِكٍ، وَلَكِنْ لَمَّا قَالَ مَالِكٌ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِالْبِئْرِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ ضَرَرٌ بِالْبِئْرِ وَبِأَهْلِهِ.

.في مَنْعِ أَهْلِ الْآبَارِ الْمَاءَ الْمُسَافِرِينَ:

قُلْت: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ قَوْمًا مُسَافِرِينَ وَرَدُوا مَاءً، فَمَنَعَهُمْ أَهْلُ الْمَاءِ مِنْ الشُّرْبِ، أَيُجَاهِدُونَهُمْ في قَوْلِ مَالِكٍ أَمْ لَا؟
قَالَ: يُنْظَرُ في ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مَاؤُهُمْ مِمَّا يَحِلُّ لَهُمْ بَيْعُهُ مِثْلَ الْبِئْرِ يَحْفِرُهَا الرَّجُلُ في دَارِهِ أَوْ أَرْضِهِ قَدْ وَضَعَهَا لِذَلِكَ يَبِيعُ مَاءَهَا، كَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ إلَّا بِثَمَنٍ إلَّا أَنْ يَكُونُوا قَوْمًا لَا ثَمَنَ مَعَهُمْ.
فَإِنْ مُنِعُوا إلَى أَنْ يَبْلُغُوا مَاءً غَيْرَ ذَلِكَ خِيفَ عَلَيْهِمْ، فَأَرَى أَنْ لَا يُمْنَعُوا وَإِنْ مُنِعُوا جَاهَدُوهُمْ.
وَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ في ذَلِكَ ضَرَرٌ يَخَافُ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ أَرَ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ إلَّا بِثَمَنٍ.
قَالَ: وَكُلُّ بِئْرٍ كَانَتْ مِنْ آبَارِ الصَّدَقَةِ، مِثْلَ بِئْرِ الْمَوَاشِي وَالشَّفَةِ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَرْوِي أَهْلُهَا.
وَإِنْ مَنَعَهُمْ أَهْلُ الْمَاءِ بَعْدَ رِيِّهِمْ فَقَاتَلُوهُمْ لَمْ أَرَ عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ حَرَجًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُمْنَعُ نَفْعُ بِئْرٍ وَلَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ».
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ مَنَعُوهُمْ الْمَاءَ حَتَّى مَاتَ الْمُسَافِرُونَ عَطَشًا - وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسَافِرِينَ قُوَّةٌ عَلَى مُدَافَعَتِهِمْ - كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ أَهْلِ الْمَاءِ دِيَاتُهُمْ، وَالْكَفَّارَةُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنْهُمْ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ، وَالْأَدَبُ الْمُوجِعُ مِنْ الْإِمَامِ في ذَلِكَ لَهُمْ.

.في فَضْلِ آبَارٍ الْمَاشِيَةِ وَفي مَنْعِ الْكَلَأِ:

قُلْت: أَرَأَيْت الْحَدِيثَ الَّذِي جَاءَ: «لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّاسُ فيهِ شُرَكَاءُ». هَلْ كَانَ يَعْرِفُهُ مَالِكٌ أَوْ كَانَ يَأْخُذُ بِهِ؟
قَالَ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ في الْأَرْضِ إذَا كَانَتْ لِلرَّجُلِ: فَلَا بَأْسَ أَنْ يَمْنَعَ كَلَأَهَا إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ وَإِلَّا فَلْيُخَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهُ.
قُلْت: أَرَأَيْت الْحَدِيثَ الَّذِي جَاءَ: «لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ».
قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ مَالِكٍ فيهِ شَيْئًا وَلَا أَحْسَبُهُ إلَّا في الصَّحَارِيِ وَالْبَرَارِيِ وَأَمَّا في الْقُرَى وَالْأَرْضِينَ الَّتِي قَدْ عَرَفَهَا أَهْلُهَا وَاقْتَسَمُوهَا وَعَرَفَ كُلُّ إنْسَانٍ حَقَّهُ، فَلِهَذَا أَنْ يَمْنَعَ كَلَأَهَا عِنْدَ مَالِكٍ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ.

.في فَضْلِ آبَارِ الزَّرْعِ:

قُلْت: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ بِئْرًا لِي أَسْقِي مِنْهَا أَرْضِي، وَفي مَائِي فَضْلٌ عَنْ أَرْضِي، وَإِلَى جَانِبِي أَرْضٌ لِرَجُلٍ لَيْسَ لَهَا مَاءٌ، وَأَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ بِفَضْلِ مَاءٌ فَمَنَعْته؟
قَالَ: لَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ مَاءَكَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْك اشْتِرَاءً إلَّا أَنْ يَكُونَ لَك جَارٌ وَقَدْ زَرَعَ زَرْعًا عَلَى بِئْرٍ لَهُ، فَانْهَارَتْ بِئْرُهُ فَخَافَ عَلَى زَرْعِهِ الْهَلَاكَ قَبْلَ أَنْ يُحْيِيَ بِئْرَهُ، فَهَذَا الَّذِي يُقْضَى لَهُ عَلَيْك بِأَنْ يَشْرَبَ فَضْلَ مَائِك إنْ كَانَ في مَائِك فَضْلٌ، وَإِلَّا فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ.
قُلْت: أَفيقْضَى عَلَيْهِ بِثَمَنٍ أَوْ بِغَيْرِ ثَمَنٍ.
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: يَقْضِي عَلَيْهِ، وَذَلِكَ عِنْدِي بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَغَيْرُهُ يَقُولُ بِثَمَنٍ.
قَالَ: وَلَقَدْ سَأَلْنَاهُ عَنْ مَاءِ الْأَعْرَابِ، يَرِدُ عَلَيْهِمْ أَهْل الْمَوَاشِي يَسْتَقُونَ فيمْنَعُهُمْ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَاءِ؟
قَالَ مَالِكٌ: أَهْلُ ذَلِكَ الْمَاءِ أَحَقُّ بِمَائِهِمْ حَتَّى يَرْوُوا، فَإِنْ كَانَ فَضْلًا سَقَى هَؤُلَاءِ بِمَا فَضَلَ عَنْهُمْ.
قَالَ مَالِكٌ: أَمَا سَمِعَتْ الْحَدِيثَ: «لَا يُمْنَعُ فَضْلُ مَاءٍ» فَإِنَّمَا هُوَ مَا يَفْضُلُ عَنْهُمْ وَلَوْ كَانَ النَّاسُ يُشَارِكُونَهُمْ مَا انْتَفَعُوا بِمَائِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ.

.في فَضْلِ مَاءِ بِئْرِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ:

قُلْت: فَلِمَ قَالَ مَالِكٌ في بِئْرِ الْمَاشِيَةِ: النَّاسُ أَوْلَى بِالْفَضْلِ؟ وَقُلْت أَنْتَ في بِئْرِ الزَّرْعِ: إنَّ صَاحِبَ الْبِئْرِ أَوْلَى بِالْفَضْلِ؟ فَمَا فَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا؟ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ أَيْضًا في الَّذِي يَغُورُ مَاؤُهُ أَوْ يَنْهَارُ بِئْرُهُ: إنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِفَضْلِ مَاءِ جَارِهِ حَتَّى يُصْلِحَ بِئْرَهُ.
فَلِمَ قُلْت أَنْتَ فيمَنْ زَرَعَ وَلَا بِئْرَ لَهُ إلَى جَانِبِ مَنْ لَهُ بِئْرٌ وَفي مَائِهِ فَضْلٌ: لِمَ لَا يَجْعَلُ مَا فَضَلَ مِنْ الْمَاءِ لِهَذَا الَّذِي زَرَعَ إلَى جَانِبِهِ؟
قَالَ: لِأَنَّ هَذَا الَّذِي زَرَعَ فَانْهَارَتْ بِئْرُهُ إنَّمَا زَرَعَ عَلَى أَصْلِ مَاءٍ كَانَ لَهُ، فَلَمَّا ذَهَبَ مَاؤُهُ شَرِبَ فَضْلَ مَاءِ صَاحِبِهِ لِئَلَّا يَهْلَكَ زَرْعُهُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا ضَرَر وَلَا ضِرَارَ» إلَّا أَنَّا لَمَّا خِفْنَا مَوْتَ زَرْعِهِ جَعَلْنَا لَهُ فَضْلَ مَاءِ جَارِهِ، بِمَنْزِلَةِ بِئْرِ الْمَاشِيَةِ، إنَّهُ يَكُونُ لِلْأَجْنَبِيِّينَ فَضْلُ مَاءِ أَهْلِ الْمَاءِ يَسْقُونَ بِهِ مَاشِيَتَهُمْ، فَكَذَلِكَ زَرْعُ هَذِهِ الْبِئْرِ إذَا انْهَارَتْ.
وَأَنَّ الَّذِي زَرَعَ إلَى جَانِبِ رَجُلٍ عَلَى غَيْرِ أَصْلِ مَاءٍ إنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَجْتَرَّ بِذَلِكَ فَضْلَ مَاءِ جَارِهِ، فَهَذَا مُضَارٌّ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْبِئْرَ تَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، أَوْ الْعَيْنُ فَتَنْهَارُ الْبِئْرُ أَوْ تَنْقَطِعُ الْعَيْنُ، فيعْمِلُهَا أَحَدُهُمَا وَيَأْبَى الْآخَرُ أَنْ يُعْمِلَ، فَلَا يَكُونُ لِلَّذِي لَمْ يُعْمِلْ مِنْ الْمَاءِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، وَإِنْ كَانَ فيهِ فَضْلٌ وَلَا يَسْقِي بِهِ أَرْضَهُ إلَّا أَنْ يُعْطِيَ شَرِيكَهُ نِصْفَ مَا أَنْفَقَ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ.
فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الَّذِي زَرَعَ عَلَى غَيْرِ أَصْلِ مَاءٍ لَا يُجْبَرُ جَارُهُ عَلَى أَنْ يَسْقِيَهُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ.

.في بَيْعِ شِرْبِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ:

قُلْت: أَرَأَيْت إنْ اشْتَرَى شِرْبَ يَوْمِ أَوْ يَوْمَيْنِ بِغَيْرِ أَصْلٍ إلَّا أَنَّهُ اشْتَرَى شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَالْأَصْلُ لِرَبِّ الْمَاءِ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ.
قُلْت فَإِنْ اشْتَرَى أَصْلَ شِرْبِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مَنْ كُلِّ شَهْرٍ، أَيَجُوزُ هَذَا في قَوْلِ مَالِكٍ أَمْ لَا؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: نَعَمْ.
قُلْت: أَرَأَيْت إنْ اشْتَرَيْت شِرْبَ يَوْمٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ بِغَيْرِ أَرْضٍ، مِنْ قَنَاةٍ أَوْ مِنْ بِئْرٍ مِنْ عَيْنٍ أَوْ مِنْ نَهْرٍ، أَيَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا في قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ.
قَالَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَ مَالِكٌ لَا شُفْعَةَ فيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ أَرْضٌ.
قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا قُسِمَتْ الْأَرْضُ وَتُرِك الْمَاءُ، فَبَاعَ أَحَدُهُمْ نُصِيبَهُ الَّذِي صَارَ لَهُ مَنْ أَرْضِهِ بِغَيْرِ مَاءٍ ثُمَّ بَاعَ نُصِيبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ الْمَاءِ، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ في مِثْلِ هَذَا الْمَاءِ: لَا شُفْعَةَ فيهِ وَالْأَرْضُ أَيْضًا لَا شُفْعَةَ فيهَا، وَإِنَّمَا الشُّفْعَةُ في الْمَاءِ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ بَيْنَ النَّفَرِ فَلَمْ يَقْتَسِمُوهَا فيبِيعُ أَحَدُهُمْ مَاءَهُ بِغَيْرِ أَرْضِهِ.
قَالَ مَالِكٌ: فَفي هَذَا الشُّفْعَةُ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ لَمْ تُقْسَمْ.
قُلْت: أَرَأَيْت إنْ بَاعَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ مِنْ الْمَاءِ، ثُمَّ بَاعَ آخَرُ بَعْدَهُ حِصَّتَهُ مَنْ الْمَاءِ، أَيَضْرِبُ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ مَعَهُمْ في الْمَاءِ بِحِصَّتِهِ مَنْ الْأَرْضِ.
قَالَ: لَا، فَكَذَلِكَ إنْ بَاعَ حِصَّتَهُ مِنْ الْأَرْضِ وَتَرَكَ حِصَّتَهُ مِنْ الْمَاءِ، ثُمَّ بَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضَ شُرَكَائِهِ حِصَّتَهُ مِنْ الْأَرْضِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فيهَا شُفْعَةٌ لِمَكَانِ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الْمَاءِ.
قُلْت: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ قَوْمًا اقْتَسَمُوا أَرْضًا، وَكَانَ بَيْنَهُمْ مَاءٌ يَسْقُونَ بِهِ، وَكَانَ لَهُمْ شُرَكَاءُ في هَذَا الْمَاءِ، فَبَاعَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ الْمَاءُ حِصَّتَهُ، مَنْ الْمَاءِ، أَيَضْرِبُ مَعَ شُرَكَائِهِ في الشُّفْعَةِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَرْضِ؟
قَالَ: لَا.

.في الرَّجُلِ يَسُوقُ عَيْنَهُ إلَى أَرْضِهِ في أَرْضِ رَجُلٍ:

قُلْت: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ مَاءٌ وَرَاءَ أَرْضِي - وَأَرْضُهٌ دُونَ أَرْضِي - فَأَرَادَ أَنْ يَجْرِيَ مَاءَهُ إلَى أَرْضِهِ في أَرْضِي فَمَنَعْته؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ لَك.
قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ في هَذَا.
قَالَ: وَلَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ مَجْرَى مَاءٍ في أَرْضِ رَجُلٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهُ في أَرْضِ ذَلِكَ الرَّجُلِ إلَى مَوْضِعٍ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْرَى إلَى أَرْضِهِ؟
قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
قَالَ: وَإِنَّمَا جَاءَ حَدِيثُ عُمَرَ في هَذَا بِعَيْنِهِ، إنَّهُ كَانَ لَهُ مَجْرَى في أَرْضِ رَجُلٍ فَأَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ أَقْرَبَ إلَى أَرْضِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَأَبَى عَلَيْهِ الرَّجُلُ، فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُجْرِيَهُ.